فتوى رقم (8)
الخميس 24/12/1998
بسم الله الرحمن الرحيم
س/ ما الدليل على مشروعية زيارة الصالحين، وحصول البركة والأجر، وتلاقح الأرواح، وفوح الروائح العطرية من جوار قبورهم؟
ج/ نحن لا ندّعي أن فلاناً صالحٌ، وفلاناً وليّ، إلا بأحد أمرين:
1- أن يُختم له بالإيمان.
2- أو ينال الشهادة في سبيل الله تعالى.
الثاني، معروف مسلّم، فظاهر حاله أنه وليّ، ومن الصالحين، فالشهادة درجة عالية، ودمُه كفارة لكل ما بدر من حقوق بينه وبين الله تعالى.
فالإمام علي والحسين وزيد والنفس الزكية والكاظم وأبو حنيفة كلهم شهداء – إذ لا فرق بين القتل بالسيف والقتل بالسمّ –
وأما الأولى، فلا سبيل لنا إليها، فنحن لا نعرف بم ختم للإنسان، لكن نقَلَ الشيخ ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" أن من شهد له أهل الإيمان بأنه من أهل الإيمان فيجوز القطع بأنه في الجنة. ونقَل هذا عن جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والشافعية والصوفية وسائر الأشاعرة، كما قال، والماتريدية، وذهب الإمام أحمد إلى ذلك على الرجاء دون القطع، فيقول: أرجو أنه من أهل الجنة وأهل الصلاح.
وبناءً على رأي الجمهور المدعم بالأحاديث الكثيرة، فمن شهدت له الأمة بالصلاح، ومن وضع له القبول بين الناس، ومن جعل الله مرقده عَلَماً يُزار رغم توالي السنين واندثار أكثر الأسماء أو مراقد أصحابها، فيجوز القطع بأنه من الصالحين. فإذا تم هذان الأمران، فمشروعية زيارة المراقد هذه من ثلاث نواح:
1. عموم إذْنِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزيارة القبور، وسعيه هو في الليالي المقمرة إلى زيارتها.
2. أما الخصوص، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يزور قبر حمزة وقبور شهداء أُحُد، وزار قبر أمه، وزار قبوراً سميت في الروايات، فدلّ هذا على جواز تخصيص قبرٍ ما بالزيارة دون مطلق المقابر.
3. لا فرق عند أهل الإيمان بين الصالح الحي والصالح المتوفى، لأن المتوفى حي أيضاً، والندب إلى زيارة المسلم كثرت في الأحاديث.
هذه واحدة، وأما الثانية في المشروعية، فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وفي رواية: (ما بين قبري ومنبري)، وعندي أن هذا مقلوب، أو مروي بالمعنى، لأن النتيجة واحدة، فقبره في بيته. وبعض العلماء قال: بل الصواب قبره، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له بيت إلا المسجد، وإنما تنسب البيوت لأزواجه، فيقال: كان في بيت عائشة وبيت أم سلمة... والخطب يسير.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث (القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)، فمَنْ شهدتْ له الأمة بالصلاح، فهو في الجنة، وقبره روضة من تلك الرياض ومَنْ نال الشهادة فقد شهد له الله بذلك. وهؤلاء الأولياء كلهم في رياض من رياض الجنة، فالمحروم مَنْ حرَمَ نفسَه التعرض لنفحات الجنة وأُنسها.
فمرقد علي روضة، ومرقد الحسين والعباس وسائر مراقد آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام البررة، قبورهم رياض، وكذلك علماء الأمة أصحاب المراقد المعروفة من أمثال أبي حنيفة وأبي يوسف، وغيرهما وكذلك أولياء الله تعالى ممن شهدت لهم الأمة بالولاية من أمثال معروف الكرخي والجنيد البغدادي والسري السقطي والرفاعي والجيلاني وألوف الأولياء الذين عظموا وكرموا أرض العراق... فمراقد هؤلاء كلها رياض، والذي يقول إن القبر في ذاته روضة وليس ما فوقه يتحكّم، فإن الجنة من أسفلها إلى آخر ما يمكن العلو كلها روضة، ولا يمكن أن يكون باطنها روضة وظاهرها ضد ذلك..
وأما الدليل على حصول الأجر، فالأجر إما محدّد وإما مطلق، وليس في زيارة المقابر أجر محدد. وكل الروايات التي يرويها المتصوفة والشيعة وغيرهم في تحديد أجور زيارة بعض الصالحين أو الأئمة، فلا يصح منها شيء - في حدود علمي ومعرفتي -، ويبقى الأجر المطلق، وهو يتعلق بكل مشروع، فمَنْ أتى فريضةً أُجِر، ومَنْ أتى نافلةً أُجِر، ومَن انقاد لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول أو بالفعل أُجِر. والأجر في زيارة هؤلاء الصالحين يأتي من جهات ثلاث:
1. امتثال ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زيارة المقابر.
2. دخول هؤلاء جميعاً تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا مَنْ لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه).
3. البر بالآباء والأجداد، وهذا مأمور به في غير ما حديث وهؤلاء إما آباؤنا نَسَباً، وإما آباؤنا معنىً، بمعنى أنهم علماؤنا وآباؤنا العلميون والروحيون.
يضاف إلى هذا قضية الولاء وإظهار الحب فإن الله تعالى يحب مَنْ يحب أحبابَه ويرحمهم ويتبعهم، فالأجر إذاً حاصلٌ بكل هذه الإعتبارات أو بعضها.
وأما الثالثة، فقد ذكر ابن القيم في كتاب "الروح" أموراً فوق التصور، وكان مما ذكر أن مِنَ الـمُشاهَد المحسوس أن أرواح بعض الصالحين كانت تهزم جيوشاً، وأن روح كل مؤمن ميت لها ارتباط بقبره، إما على العين أو التقريب وهي تطلع وتدرك كل ما يصنعه ذووها عند قبرها، وفي بيوتهم إذا استدعيت. ويقول ابن القيم: لا خلاف عندنا في أن أرواح بعض الصالحين تحضر على قدر حال الداعي، فحين يذهب الإنسان إلى زيارة ولي ويطيل المكث عنده قدر ما يتعظ من جهة، وقدر ما يقرأ سورة يس أو نحوها فإنه سيحس إحساساً حقيقياً ببعض صفات الروضة إن لم يكن بجميعها من السكينة والأنس والطمأنينة وصفاء القلب وغسل صدأ الضمير والروائح الزكية، وقد يحصل بعض هذا، وقد يحصل أكثر منه. ومَنْ ذاق عَرَف ومَنْ أنكرَ حُرِم.
وبعض الناس يرى أن زيارة المراقد شرك أكبر لأنها مشاكلة للوثنية؛ فالوثنيون كانوا يطوفون بالقبور ويتمسحون بها، أو من الشرك الخفي وهو جَعْلُ وسيلة بين الله وبين خلقه عندهم. وما درى هذا المسكين أن هذا الرجل الصالح موحد مؤمن وأن الذين يزورونه لا يعبدونه وإنما يعبدون الله بحبه، ويتقربون إلى الله بزيارته، أما ذاك فوَثَنٌ أو صنم جعله الناس الكفرة ندّاً لله بدلاً عنه أو رمزاً له أو شريكاً معه، والمشابهة ببعض الأفعال الظاهرة الخاطئة لا يعني المشابهة في اللباب، لأن المشركين لم يشركوا لطوافهم بالصنم، وإنما أشركوا بإحدى الخصال الثلاث الآنفة، والطواف والتمسح كناية عندهم عن الحب، ونحن ننكر الطواف ونحرمه، وننكر التمسح ونكرهه لهذه المشابهة، لا لأن التمسح بحد ذاته فيه شيء، لأن التبرك بآثار الصالحين مشروع.
أهـ
ملاحظة: علّق الشيخ عداب الحمش بعد اطلاعه على نص هذه الفتوى بأن حديث (القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) حديث ضعيف ولكن يصح بهذا المعنى أحاديث وآثار أخر كما في الحديث الذي أخرجه البخاري رحمه الله
عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ في قَبْرِه وَتَوَلَّى عنه أَصْحَابُه، أنه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، فَيَأْتِيه مَلَكَانِ، فَيُقْعِدَانِه، فَيَقُولَانِ له: مَا كُنْتَ تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ، مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وَسَلَّمَ ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أنه عَبْدُ الله ورسوله، فَيَقُولُ له: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ الله به مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّة، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا». قَالَ قَتَادَة: وَرُوِي لَنَا: أنه يُفْسَحُ له في قَبْرِه، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. البخاري برقم (1374) ومسلم برقم (2870)